معنى التاريخ في حضارة مصر القديمة
يان أسمان يقرأ تاريخ الفراعنة في ضوء العصر
لندن: د. ابراهيم الحيدري
يحاول يان اسمان، عالم المصريات الالماني في كتابه «مصر القديمة ـ تاريخ الفراعنة على ضوء علم الدلالة»، الصادر عن دار الجمل بترجمة حسام الحيدري، وصف المكونات المعنوية البارزة في التاريخ المصري القديم وكيفية تكونها وتطورها ومسيرتها وتعاقبها الزمني على ضوء علم الدلالة الحديث ومفاهيمه ومنهجه، ثم ربطها بالتاريخ الحضاري لمصر، مبينا معنى التاريخ في الذاكرة الحضارية التي تستند الى «العقلية» التي تتضمن النصوص والصور والرموز والممارسات التاريخية التي كونت الخلفية التي اعتمد عليها في كتابه. غير ان ما يهم اسمان من التاريخ هو تحولاته ومكوناته المعنوية التي تشكل المفاهيم الدلالية في بحثه. واذا ادركنا اهمية الترابط بين هذه التحولات والمكونات المعنوية فان الفضل في ذلك يعود الى الذاكرة الحضارية التي تظهر في الكتابة والصور والتماثيل الحجرية وغيرها التي ترمز الى موجودات معنوية من الماضي، التي يمكن اعادة فاعليتها دوما وذلك بربطها بالمكونات المعنوية للعصر الحديث.
كما يهتم اسمان بسيرورة الحركة التاريخية، وبخاصة حركة الزمن المركب حضاريا، التي ترتبط بقوة بالذاكرة الحضارية. فهو يميز بين ذاكرة الزمن القصير وذاكرة الزمن الطويل التي تنظم وظائف الاختلافات الحضارية والاجتماعية والسياسية وتضع الحضارة المصرية في خط ذاكرة الزمن الحضاري الطويل الذي يمتد الى حوالي ثلاثة الآف عام. وقد اشار اسمان الى وجود شكلين من الزمن، يتكون الاول من وحدات من الزمن تعبر عن حركة غير ثابتة، بينما يعبر الزمن الآخر عن وحدات ثابتة وذات ديمومة، ويرمز اليها بالحجر الذي لا يبلى ويبقى مستمرا مع الزمن. ولكن السؤال الهام الذي يمكن طرحه: ما هي طبيعة هذا الزمن؟ لا يعطينا اسمان جوابا على ذلك، كما ان الفلسفة لا تجيبنا سوى ان الزمن ما زال لغزا عسير الفهم حتى اليوم!
يتضمن كتاب اسمان مقدمة وستة ابواب. يبحث في المقدمة، الشكل المعنوي للتاريخ ـ الذي هو تاريخ مفتوح وكامن او مخفي في آن، يتضمن آثارا ورسالات وتذكرات مبنية على المعنى، نستطيع من خلالها رؤية الاشياء ومعرفتها وفهمها.
يكون القسم الاول والثاني مدخلا يبحث فيه معنى «ما قبل الدولة» لفهم بدايات الحضارة الفرعونية وتأسيس الدولة المصرية القديمة ودعمها بواسطة الاثار المادية والرسالات والتذكر، حيث يكون بناء الاهرامات «العصر الحجري» لتاريخ المعنى في مصر، وتأسيس علم الدلالة «الحجري»، في حين انتج العصر المتوسط فوضى وتفككا كتذكر سياسي نتيجة للازمة التي حلت بالمملكة في نهاية عصر الاسرة الملكية السادسة (بحدود 2160 ق، م).
ويبحث في القسم الثالث، ذاكرة مصر في المملكة الوسطى، التي تحولت الى دولة استبدادية ولكن مع تنوير داخلي وحضارة فكرية تزامنت مع تطور مؤسسات الدولة والثقافة والكتابة ونشوء المدارس وتأسيس المملكة الجديدة.
وكان للديانة المصرية دور كبير وهام في تطور الامبراطورية وكذلك في توسع الحروب التي قامت ضد الهكسوس، حيث حدثت تطورات وتحولات حضارية كبيرة ابتداء من عصر «العمارنة» حتى العصر الرمسيسي (1350 ـ 1270 ق . م ). ففي مجال العقيدة الدينية حدث توجه نحو تأليه الكون، كشكل من اشكال المعرفة، وتحول الاديان ذات الآلهة المتعددة الى تمجيد الكون واعتباره من خلق عدة آلهة، كما يتمثل بتأويل الكون في المعنى الاسطوري لمسار الشمس حول الارض وتكون الليل والنهار، الذي تطور عنه لاهوت شمسي عكس التحول من العمل المشترك الى العمل الفردي، كما يظهر ذلك في التراتيل الدينية.
اما القسم الرابع والخامس فيبحث فيه عن السلطة الدينية وتحول السلطة المركزية الى قوى متعددة، وتحول مصر من دولة موحدة قوية الى دويلات صغيرة ضعيفة وانحسار قوة الدولة المركزية القادرة على ضمان سلامة مواطنيها. وهو ما ساعد على ظهور الحكم الثيوقراطي المستنبط من فكرة «العهد الآلهي» حيث يختار كل شعب لنفسه ملكا يصطفيه الإله. وهكذا كان هناك ملك ليبي وآخر حبشي وثالث صاوي. والنتيجة كانت سقوط مصر تحت حكم الفرس ثم الاغريق.
وفي القسم السادس والاخير، يتناول تاريخ مصر تحت حكم الفرس والاغريق بدءا من عام 525 ق . م. وانتهاء الحضارة المصرية كرسالة باختفاء الالمام بالكتابة التي تركت وراءها آثارا وتذكرات.
ومع ذلك، كما يقول اسمان، لم يطو النسيان حضارة مصر القديمة تماما، وانما بقيت حاضرة وباستمرار في الوعي الحضاري، ولكن ليس في وعي العرب، وانما في الدور الذي لعبته في الوعي الحضاري للغرب. فالذاكرة الحضارية لم تلغ الماضي، وانما بقيت تحمله في طياتها ولم تقف امام الماضي متسائلة فقط، وانما كانت مبتلاة به. ولذلك اصبحت مصر جزءا من ذلك الماضي الذي يعتبره الغرب جزءا من ماضيه.
والنتيجة التي يريد اسمان الوصول اليها وهي هدف ومحور الكتاب، ان الهوية الاوروبية هي صورة الغرب ذاتها التي تعود في اصولها الى الاديان المنزلة ومبادئ العقل الانسانية التي قامت عليها الحضارة المصرية القديمة والتي انتقلت الى الغرب عن طريق فرعين آخرين هما الحضارة الاغريقية والديانة اليهودية، وان جوهر التوراة والانجيل مأخوذ من الحضارة المصرية التي شملت الوعي التاريخي.
واذا كان معنى التاريخ يصف تشكيل الوعي الاصولي لمصر القديمة، فانه يثير تساؤلات حول أطر وشروط الفعل الطبيعي والثقافي والديني والحضاري، التي انتقلت آثارها وبشاراتها وانجازاتها الى اوربا بوضوح شديد. ومثال على ذلك كما يقول اسمان، ان العهد القديم يتضمن ديانتين، الاولى أولية ترتبط بعبادة الآلهة، والثانية وحدانية تقف موقفا صارما من الاديان الأولية وعبادة الآلهة، وتدعو الى عبادة إله واحد. ولذلك كان لمصر في الذاكرة الأوروبية اهمية مدهشة، فما زالت مصر جزءا من ذلك الماضي، وان أوروبا بالذات هي الجزء الآخر منه. وهذان الجزآن لا يقفان متضادين واحدا ضد الآخر، وانما يكمل كل منهما الآخر.
وقد اثار صدور الكتاب سجالا واسعا وصدرت عدة كتب للرد عليه ومناقشته، وأجاب عليها بكتابين، الاول «موسى المصري» (1998) والثاني «التمييز الموسوي أو ثمن التوحيد» (2003).