الحج
عبادة عظيمة في الإسلام، شرعه الله تعالى، وجعله ركنا من أركان ديننا
الإسلامي الحنيف، وقاعدة من قواعده الخمس، وأوجبه على من استطاع إليه سبيلا
من عباده المومنين، مصداقا لقوله تعالى :"ولله على الناس حج البيت من
استطاع إليه سبيلا"، وقوله سبحانه :"وأتموا الحج والعمرة لله"، وقول النبي
صلى الله عليه وسلم :"أيها الناس، إن الله فرض عليكم الحج فحجوا".
والمتأمل
في مشروعية عبادة الحج وغيرها من العبادات في الإسلام، والمتفكر في حكمة
الاجتماع والالتقاء على أداءها في مكان واحد وعلى هيئة وكيفية واحدة، يجدها
تنطوي على حكم ربانية، وأسرار جليلة، منها ما يدركه الإنسان من خلال نصوص
الشرع ومقاصده، ومنها ما يهتدي إليه ويستنبطه بثاقب فكره ونور بصيرته،
ومنها ما يبقى في طي الغيب عن الإنسان، باعتباره بشرا محدود الفكر والنظر،
ولا يتجاوز عقله وفكره نطاقا معلوما وأمدا محدودا.
ولعل أول هذه الحكم
الظاهرة، والمقاصد الشرعية الجليلة هي التوجه بالعبادة والعبودية لله وحده،
والخضوع والطاعة بها له سبحانه، فلا إله غيره ولا معبود بحق سواه، والعباد
كلهم مفتقرون إليه جل علاه، "يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله، والله
هو الغني الحميد" وهو تعالى ذو فضل على العالمين.
ومن حكمة مشروعية
العبادات في الإسلام أنها تحيي القلوب وتزكي النفوس، وتثمر فيها الخشية
والتقوى، وتجعل المسلم على صلة دائمة بربه، فتزيده إيمانا ويقينا، واهتداء
وصلاحا، وتسمو بها روحه وترتقي بها إلى الآفاق العلوية، الكونية، كلما أدى
فريضة أو قام بعبادة، مصداقا لقوله تعالى في الصلاة :"إن الصلاة تنهى عن
الفحشاء والمنكر"، وقوله سبحانه في الزكاة :"خذ من أموالهم صدقة تطرهم
وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلواتك كانت سكن لهم"، وقوله جل علاه في الصوم
:"يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم، لعلكم
تتقون، أياما معدودات"، وقوله سبحانه في الحج: "الحج أشهر معلومات، فمن
فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وما تفعلوا من خير يعلمه
الله، وتزودوا فإن خير الزاد التقوى" وقال النبي صلى الله عليه وسلم :"من
حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه".
كما أن من حكمة العبادة في
الإسلام أنها مظهر من مظاهر الوحدة الإسلامية والأخوة الدينية التي تجمع
بن المسلمين في عقيدتهم وعبادتهم له، وتؤلف بين قلبوهم المومنة، وتشعرهم
بأنهم أمة واحدة، وتحثهم على التعاون على البر والتقوى، وتهديدهم إلى
الصراط المستقيم، والسير على نهجه القويم.
ومن تمام حكمة الإسلام
وكمالها في مشروعية العبادات أنه شرع الالتقاء على القيام بها، ورغب في
أدائها جماعة كما هو الشأن بالنسبة لفرائض الصلوات الخمس التي يفوق ثواب
أدائها جماعة في المسجد ثواب صلاة المسلم في بيته منفردا، ويفضله بسبع
وعشرين درجة، وبالنسبة لصلاة الجمعة التي لا تؤدي إلا في المسجد الجامع،
والتي تجمع في يومها أكبر عدد ممكن من المسلمين المصلين في كل مسجد،
وبالنسبة لصلاة عيد الفطر والأضحى، حيث يجتمع لحضورها في المسجد أو المصلى
أوفر عدد من المسلمين القاطنين بكل مدينة وقرية، كما يلتقي المسلمون على
أداء الزكاة عند حلول الحول من كل سنة، وفريضة الصيام في شهره المبارك شهر
رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان.
ويأتي
موسم الحج كل عام، وقد جعل الله مكانه البلد الحرام بمكة المكرمة، ذلك
البلد الأمين الذي شاء الله أن يكون محل الكعبة المشرفة، ومكان أداء مناسك
وشعار الحج والعمرة، ليأتي إليه المسلمون من كل بلد، ويفدون إليه من كل فج
عميق ليشهدوا منافع لهم ويطوفوا بالبيت العتيق، ويقفوا جميعهم بموقف عرفة،
على هيئة وكيفية واحدة، حيث يباهي الله بهم ملائكته، ويشهدهم أنه سبحانه قد
غفر لعباده المومنين، فتزداد دائرة التقاء المسلمين اتساعا، لا فرق بين
عربيهم وعجميهم، ولا فضل لأبيضهم على أسودهم إلا بالتقوى والعلم الصالح،
مصداقا لقول الله تعالى :"وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالا وعلى كل ضامر
يأتين من كل فج عميق ليشهدوا منافع لعم ويذكروا اسم الله في أيام معلومات
على ما رزقهم من بهيمة الأنعام"، وقوله سبحانه:" يا أيها الناس إنا خلقناكم
من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوب وقبائل لتعارفوا، إن أكرمكم عند الله أتقاكم،
إن الله عليم خبير".
وهكذا تكون العبادات في الإسلام، والتقاء المسلمين
على أدائها في مساجد الله وبيوته، وفي البلد الحرام على أداء فريضة الحج
وسنة العمرة، وفي المدينة المنورة للصلاة في المسجد النبوي وزيارة الروضة
الشريفة مناسبات دينية متكررة ومتجددة في كل يوم وجمعة، وفي كل عيد وسنة،
لتوثيق عرى الأخوة وتمتين أواصر المحبة والصفاء والوئام، والتعاون على
الخير والصلاح دينا ودنيا، حتى تنهض الأمة الإسلامية وشعوبها المومنة،
وتواصل رسالتها الدينية والحضارية، التي جعلت منها خير أمة أخرجت للناس،
مصداقا لقول الله سبحانه :
"كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتومنون بالله".