صح في الحديث الذي رواه الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( من سئل عن علم فكتمه ألجم بلجام من نار يوم القيامة ) .
والآية التي بين أيدينا اليوم نزلت في حق أهل الكتاب، تذم فعلهم، وفعل كل
من كان على شاكلتهم، فنحن نقرأ قوله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين
أوتوا الكتاب لتبيِّنُّنه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به
ثمنًا قليلاً فبئس ما يشترون } (آل عمران:187) .
وقد اختلف المفسرون في حق من نزلت هذه الآية، على ثلاثة أقوال، ذكرها الطبري في " تفسيره":
الأول: أنها نزلت في حق اليهود، وهم المقصدون فيها؛ فروي عن ابن عباس رضي
الله عنهما، أنه قال: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه
للناس ولا تكتمونه } إلى قوله: { عذاب أليم } يعني: فنحاص و أشيع وأشباههما
من الأحبار .
وعنه رضي الله عنه أيضًا قال: في التوراة والإنجيل: أن الإسلام دين الله
الذي افترضه على عباده، وأن محمدًا رسول الله يجدونه مكتوبًا عندهم في
التوراة والإنجيل، فينبذونه .
وعن السدي قال: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا
تكتمونه } قال: إن الله أخذ ميثاق اليهود ليبينه للناس، محمدًا صلى الله
عليه وسلم، ولا يكتمونه { فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلاً } .
وعلى هذا القول، فالآية - كما يقول ابن كثير - توبيخ من الله وتهديد لأهل
الكتاب، الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء، أن يؤمنوا بمحمد
صلى الله عليه وسلم، وأن ينوِّهوا بذكره في الناس، ليكونوا على بينة من
أمره، فإذا أرسله الله تابعوه. فكتموا ذلك، وتعوضوا عما وعِدوا عليه من
الخير في الدنيا والآخرة، بالدون الطفيف، والحظ الدنيوي السخيف، فبئست
الصفقة صفقتهم، وبئست البيعة بيعتهم .
الثاني: أن المقصود في هذه الآية كل من أوتي علمًا بأمر الدين؛ روي عن
قتادة أنه قال: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا
تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم } هذا ميثاق أخذه الله على أهل العلم، فمن علم
شيئًا فلْيُعلِّمه، وإياكم وكتمان العلم، فإن كتمان العلم هلكة، ولا
يتكلفن رجل ما لا علم له به، فيخرج من دين الله، فيكون من المتكلفين. وكان
يقال: طوبى لعالم ناطق، وطوبى لمستمع واع. هذا رجل عَلِمَ علمًا فعلمه
وبذله ودعا إليه، ورجل سمع خيرًا فحفظه ووعاه وانتفع به .
وقال محمد بن كعب : لا يحل للعالم أن يسكت على علمه، ولا للجاهل أن يسكت
على جهله، قال الله تعالى: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب }
وقال: { فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون } (الأنبياء:7). وقال أبو
هريرة رضي الله عنه: لولا ما أخذ الله على أهل الكتاب ما حدثتكم بشيء، ثم
تلا هذه الآية .
ورُوي عن علي رضي الله عنه أنه قال: ما أخذ الله على الجاهلين أن يتعلموا، حتى أخذ على العلماء أن يُعلِّموا .
وعن الحسن قال: لولا الميثاق الذي أخذه الله على أهل العلم، ما حدثتكم بكثير مما تسألون عنه .
ثالثًا: وقال قوم: معنى الآية: وإذ أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم؛ فعن
سعيد بن جبير قال: قلت لـ ابن عباس رضي الله عنهما: إن أصحاب عبد الله
يقرؤون: { وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب } { وإذ أخذ الله ميثاق
النبيين } (آل عمران:81) قال: أخذ الله ميثاق النبيين على قومهم .
وإلى أي الأقوال ذهبنا، فإن العبرة بعموم اللفظ، لا بخصوص السبب، كما هو
مقرر عند أهل التفسير، فحكم الآية إذًا يشمل كل من يرتكب صنيع أهل الكتاب،
ويفعل فِعْلَتهمْ من الكتمان والنبذ .
ولا يخفى أن الأمم لا تحيى بالخبز وحده، بل هي بحاجة أيضًا إلى ما يحيي
قلوبها، ويشرح صدورها، ويفتح أبصارها، ويُزيل الغشاوة عن بصائرها؛ وكل هذا
لا يكون إلا بنشر العلم، وبثِّه بين الناس، ومن ثَمَّ العمل به، أما إذا
استأثر كل عالم بعلمه، فقد أصبح الجهل هو سيد الموقف، وأضحت الأثرة هي التي
تتحكم في سلوك الناس وفِعالهم، وحينئذ يصبح الناس فوضى لا سراة لهم،
ويتحقق فيهم قول الحق سبحانه: { ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي
الناس } (الروم:41) .
ومن هنا ندرك أهمية التحذير القرآني، والهدي النبوي من كتمان العلم، وحجبه
على الناس، قال تعالى: { إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من
بعد ما بيَّنَّاه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون }
(البقرة:159)، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع، الدال
على العمل الصالح، ولا يكتموا منه شيئًا، وإلا فقد حقَّ عليهم ما أخبر الله
به؛ وبالمقابل فعلى الناس أن يسعوا في طلب العلم، ويحصنوا أنفسهم به، وفي
عزوفهم عن ذلك هلاك لهم، وأي هلاك !!