قليلون جدا من لم يسمعوا بـ "جبران" حول العالم، والأقل منهم من لم يسمعوا بكتاب "النبي". وهذا الكتاب يختصر بالفعل فلسفة جبران
ونظرته إلى الكون والحياة. وقد ترجم إلى لغات العالم الحية كلها، وكانت
آخرها اللغة الصينية ( هذا العام)، وقد حققت مبيعاته أرقاما قياسية
بالنسبة إلى سواه من الكتب المترجمة إلى تلك اللغة.
صحيح أن معظم كتب جبران وضعت بالإنكليزية، وهذا ما ساعد كثيرا على انتشارها، ولكن جبران
كتب ورسم و "فلسف" الأمور بروح مشرقية أصيلة لا غبار عليها، سوى غبار
المزج بين ثقافات متعددة وعجنها ثم رقها وخبزها على نار الطموح إلى
مجتمع أفضل وحياة أرقى وعلاقات بين البشر تسودها السعادة المطلقة التي
لم يتمتع بها جبران نفسه. وكأن قدر كل
عظماء العالم من فلاسفة ومفكرين ان يعانوا الآلام النفسية والجسدية في
سبيل بلوغ الغاية القصوى واكتشاف أسرار الحياة والمعرفة.
ولد هذا الفيلسوف والأديب والشاعر والرسام من أسرة صغيرة فقيرة في بلدة بشري في 6 كانون الثاني 1883. كان والده خليل جبران الزوج الثالث لوالدته كاملة رحمة التي كان لها ابن اسمه بطرس من زواج سابق ثم أنجبت جبران وشقيقتيه مريانا وسلطانة .
كان والده، خليل
سعد جبران، الذي ينحدر من أسرة سورية الأصل، يعمل راعياً للماشية
ويمضي أوقاته في الشرب ولعب الورق. "كان صاحب مزاج متغطرس، ولم يكن
شخصاً محباً"، كما يتذكر جبران، الذي عانى من إغاظته وعدم تفهمه. وكانت
والدته "كاملة رحمة"، من عائلة محترمة وذات خلفية دينية، واستطاعت ان
تعتني بها ماديا ومعنويا وعاطفيا.. وكانت قد تزوجت بخليل بعد وفاة زوجها
الأول وإبطال زواجها الثاني. كانت شديدة السمرة، ورقيقة، وصاحبة صوت جميل
ورثته عن أبيها.
لم يذهب جبران
إلى المدرسة لأن والده لم يعط لهذا الأمر أهمية ولذلك كان يذهب من حين
إلى آخر إلى كاهن البلدة الذي سرعان ما أدرك جديته وذكاءه فانفق
الساعات في تعليمه الأبجدية والقراءة والكتابة مما فتح أمامه مجال
المطالعة والتعرف إلى التاريخ والعلوم والآداب.
وبفضل أمه، تعلم الصغير جبران
العربية، وتدرب على الرسم والموسيقى. ولما لاحظت ميل الرسم لديه،زودته
بألبوم صور لـ "ليوناردو دفنشي"، الذي بقي معجباً به بصمت. بعد وقت
طويل، كتب يقول: "لم أر قط عملاً لليوناردو دفنشي إلاّ وانتاب أعماقي
شعور بأن جزءاً من روحه تتسلل إلى روحي...".
تركت
أمه بصمات عميقة في شخصيته، ولم يفته أن يشيد بها في "الأجنحة
المتكسرة": "إن أعذب ما تحدثه الشفاه البشرية هو لفظة "الأم"، وأجمل
مناداة هي "يا أمي". كلمة صغيرة كبيرة مملوءة بالأمل والحب والانعطاف
وكل ما في القلب البشري من الرقة والحلاوة والعذوبة. الأم هي كل شيء في
هذه الحياة، هي التعزية في الحزن، والرجاء في اليأس، والقوة في الضعف،
هي ينبوع الحنو والرأفة والشفقة والغفران، فالذي يفقد أمه يفقد صدراً
يسند إليه رأسه ويداً تباركه وعيناً تحرسه...".
سنواته الأولى أمضاها جبران
لا مبالياً، رغم الشجارات بين والديه والسقوط من فوق ذلك المنحدر الذي
ترك فيه التواء في الكتف. تتلمذ في العربية والسريانية على يد الأب
"جرمانوس". وعلمه الأب "سمعان" القراءة والكتابة في مدرسة بشري
الابتدائية. ويروي صديقه الكاتب "ميخائيل نعيمة" أن الصغير جبران
كان يستخدم قطعة فحم ليخط بها رسومه الأولى على الجدران. ويحكى أنه طمر
يوماً، وكان عمره أربع سنوات، ورقة في التراب وانتظر أن تنبت.
في العاشرة من عمره وقع جبران عن إحدى صخور وادي قاديشا وأصيب بكسر في كتفه اليسرى ، عانى منه طوال حياته.
لم
يكف العائلة ما كانت تعانيه من فقر وعدم مبالاة من الوالد، حتى جاء
الجنود العثمانيون عام (1891) والقوا القبض عليه أودعوه السجن بسبب لسوء
إدارته الضرائب التي كان يجيبها. أدين، وجرد من كل ثرواته وباعوا
منزلهم الوحيد، فاضطرت العائلة إلى النزول عند بعض الأقرباء ولكن الوالدة
قررت ان الحل الوحيد لمشاكل العائلة هو الهجرة إلى الولايات المتحدة
سعيا وراء حياة أفضل !!
هجرة العائلة إلى أمريكا
أربك دخول خليل والدة جبران
تماماً. كيف ستطعم أولادها الأربعة ولا تملك أي شيء. فكرت بالهجرة.
ولكن، أين ستجد نفقات السفر.. باعت ما تبقى لها من تركة والدها.
والتمست تدخل أحد الأساقفة للحصول على إذن السفر من السلطات الأمريكية.
ورحلت الأسرة بحراً عام 1895 إلى العالم الجديد، إلى بوسطن.
عام 1894 خرج خليل جبران من السجن، وكان محتارا في شأن الهجرة، ولكن الوالدة كانت قد حزمت أمرها، فسافرت العائلة تاركة الوالد وراءها.
حطت
الأسرة الرحال في "إليس إيسلاند"، نيويورك، في 17 حزيران 1895. ووصلوا
إلى نيويورك بالتحديد في 25 حزيران 1895 ومنها انتقلوا إلى مدينة بوسطن
حيث كانت تسكن اكبر جالية لبنانية في الولايات المتحدة.بعد ذلك بوقت
قصير وهي المدينة التي ترتبط بها قضايا التاريخ الأمريكي الكبيرة: الثورة،
والاستقلال، وإلغاء العبودية، وتحرير النساء... . ونزلت العائلة في
بوسطن في ضيافة أقارب كانوا قد جاءوا من بشري قبل سنوات قليلة وبذلك لم
تشعر الوالدة بالغربة، بل كانت تتكلم اللغة العربية مع جيرانها،
وتقاسمهم عاداتهم اللبنانية التي احتفظوا بها.
اهتمت الجمعيات الخيرية بإدخال جبران
إلى المدرسة، في حين قضت التقاليد بأن تبقى شقيقتاه في المنزل، في حين
بدأت الوالدة تعمل كبائعة متجولة في شوارع بوسطن على غرار الكثيرين من
أبناء الجالية. وقد حصل خطأ في تسجيل اسم جبران في المدرسة وأعطي اسم والده، وبذلك عرف في الولايات المتحدة باسم "خليل جبران". وقد حاول جبران عدة مرات تصحيح هذا الخطأ فيما بعد إلا انه فشل.
بدأت
أحوال العائلة تتحسن ماديا حيث راح الأخ البكر غير الشقيق بطرس يبحث
عن عمل. ووجده في محل للمنسوجات. وكان على الأم كاملة أن تحمل على ظهرها
بالة صغيرة من الشراشف والأغطية والحريريات السورية وتنتقل بها من بيت
إلى بيت لبيعها. ثم عملت في الخياطة، بمساعدة ابنتيها سلطانة وماريانا،
وعندما جمعت الأم مبلغا كافيا من المال أعطته لابنها بطرس الذي يكبر جبران بست سنوات وفتحت العائلة محلا تجاريا.
وكان معلمو جبران
في ذلك الوقت يكتشفون مواهبه الأصيلة في الرسم ويعجبون بها إلى حد ان
مدير المدرسة استدعى الرسام الشهير هولاند داي لإعطاء دروس خاصة لجبران
مما فتح أمامه أبواب المعرفة الفنية وزيارة المعارض والاختلاط مع بيئة
اجتماعية مختلفة تماما عما عرفه في السابق.
في نفس الوقت أشفقت كاملة على بطرس وهي تراه يكد لإعالة الأسرة، بينما كان يمضي جبران
وقته في القراءة والرسم والاستغراق في الأحلام. وطلبت منه مساعدة
أخيه. لكنه رفض صراحة، معلناً إن إصبع رسام صغيرة لتساوي ألف تاجر ـ ما
عدا بطرس؛ وإن صفحة من الشعر لتساوي كل أنسجة مخازن العالم!. في
الواقع، أخذ جبران يواظب على التردد إلى
مؤسسة خيرية تعطي دروساً في الرسم اسمها "دنسيون هاوس"،حيث لفتت موهبته
انتباه مساعدة اجتماعية نافذة جداً اسمها "جسي"، التي عرّفته من خلال
صديق لها إلى المصور الشهير "فرد هولاند داي"، الذي كان يدير داراً
للنشر في بوسطن.
كان داي بحاجة لموديلات شرقية لصوره. وقد راقه جبران
بوجهه المسفوع، وشعره الأسود، ونظراته التأملية. ألبسه راعيه إياه
ثياباً جديدة، وأولمه، وعرّفه إلى عالم الرسام والشاعر "وليم بليك"،
الذي اكتشف فيه جبران عالماً أسطورياً
وتنبؤياً، وبهره تنوع الينابيع التي أثرت مفرداته الشعرية، وتأثر
بخصوبة أعماله الرمزية الموسومة بالجدل الروحي بين الخير والشر والجنة
والجحيم... . لم يكن بعد، لصغر سنه، بمستوى الارتقاء إلى فكر "بليك" كله،
غير أنه تمثل بعض أفكاره كنقد المجتمع والدولة، وفضيلة الرغبة الخلاقة،
ووحدة الكائن، وراح يخط رسوماً مشحونة بالرموز مستوحاة من رسوم الفنان
والشاعر اللندني الشهير...
كان لداي فضل اطلاع جبران على الميثولوجيا اليونانية، الأدب العالمي وفنون الكتابة المعاصرة والتصوير الفوتوغرافي، ولكنه شدد دائما على ان جبران
يجب ان يختبر كل تلك الفنون لكي يخلص إلى نهج وأسلوب خاصين به. وقد
ساعده على بيع بعض إنتاجه من إحدى دور النشر كغلافات للكتب التي كانت
تطبعها. وقد بدا واضحا انه قد اختط لنفسه أسلوبا وتقنية خاصين به، وبدأ
يحظى بالشهرة في أوساط بوسطن الأدبية والفنية.
العودة إلى لبنان
قررت عائلة جبران
وخصوصا أمه أن الشهرة المبكرة ستعود عليه بالضرر، وانه لا بد أن يعود
إلى لبنان لمتابعة دراسته وخصوصا من أجل إتقان اللغة العربية .. وكان قد
أثار تردد جبران المتزايد إلى أوساط
"داي"، الذي لم تكن سمعته تدعو للارتياح، قلق الأسرة. وازدادت الأمور
سوءاً بعد أن وقع في شراك زوجة تاجر في الثلاثين من عمرها، وغيابه
المتكرر عن البيت ليلاً. وكان قد فتن قبلها بامرأة أخرى... وفكرت كاملة
بإعادة ابنها المراهق إلى لبنان. ولم يعترض جبران فوصل جبران إلى بيروت وهو يتكلم لغة إنكليزية ضعيفة، ويكاد ينسى العربية أيضا.
رحل إلى بيروت في 30 آب 1898. كان بين أمتعته الأناجيل وكتاب لـ "توماس بلفنيتش" في الميثولوجيا اكتشف فيه الفنان الناشئ جبران دراما "بروميثيوس"، وأسطورة "أورفيوس"، والنبي الفارسي "زرادشت"، والفلسفة الفيثاغورسية، والأساطير الهندية...
هرع جبران
فوراً إلى بشري، وحضن أبيه، وتوافد الأقارب والأصدقاء لرؤية
"الأمريكي". كان بينهم أستاذه الشاعر والطبيب "سليم الضاهر"، الذي نصحه
بمتابعة دروسه في "كوليج دو لا ساجيس"، التي بقي فيها زهاء ثلاث سنوات.
ورغم تأخره في العربية الفصحى، "طلب" الفتى قبوله في صف أعلى وعدم
سؤاله قبل ثلاثة أشهر. وقبل القيمون "شروط" جبران، الذي أعجبتهم جرأته
وقوة شخصيته. كان من بين أساتذته الأب "يوسف حداد"، الشاعر والكاتب
المسرحي الذي اكتشف برفقته كنوز اللغة العربية، وابن خلدون، والمتنبي،
وابن سينا، والشعراء الصوفيين. وبدأ يجيد التعبير عن أفكاره بلغته الأم،
وكتب أولى نصوصه بالعربية. وتعلم الفرنسية وأخذ يقرأ آدابها. ويتذكر جبران
أن تلك المدرسة كانت صارمة؛ وأنه لم يكن يمتثل لمعلميه؛ وأنه كان أقل
تعرضاً للعقاب من بقية التلاميذ، لأنه كان يدرس كثيراً. كان في الصف
يسرح في فكره دائماً، ويرسم، ويغطي كتبه ودفاتره برسوم كاريكاتورية
لأساتذته. كان جبران في نظر رفاق الصف غريباً، بشعره الطويل الذي يرفض قصه، ومواقفه غير المألوفة.
في بداية العام 1900، مع مطلع القرن الوليد، تعرف جبران على يوسف الحويك واصدرا معا مجلة "المنارة" وكانا يحررانها سوية فيما وضع جبران رسومها وحده. وبقيا يعملان معا بها حتى أنهى جبران
دروسه بتفوق واضح في العربية والفرنسية والشعر (1902) وكان في عام 1901
تم اختيار إحدى قصائده لنيل الجائزة التقديرية. وكان يتوق بحماس لنيل
هذه الجائزة، لأن التلميذ الممتاز في هذه المدرسة هو الأكثر موهبة في
الشعر، كما قال.
عودته إلى أمريكا .. والمآسي في انتظاره
وقد
وصلته أخبار عن مرض أفراد عائلته، فيما كانت علاقته مع والده تنتقل من
سيء إلى أسوأ فغادر لبنان عائدا إلى بوسطن، ولكنه لسوء حظه وصل بعد
وفاة شقيقته سلطانة. وخلال بضعة اشهر كانت أمه تدخل المستشفى لإجراء
عملية جراحية لاستئصال بعض الخلايا السرطانية. قرر شقيقه بطرس ترك المحل
التجاري والسفر إلى كوبا. وهكذا كان على جبران
ان يهتم بشؤون العائلة المادية والصحية. ولكن المآسي تتابعت بأسرع مما
يمكن احتماله. فما لبث بطرس ان عاد من كوبا مصابا بمرض قاتل هو ( السل )
وقضى نحبه بعد أيام قليلة (12 آذار 1903) فيما فشلت العملية الجراحية
التي أجرتها الوالدة في استئصال المرض وقضت نحبها في 28 حزيران من السنة
نفسها.
إضافة إلى كل ذلك كان جبران
يعيش أزمة من نوع آخر، فهو كان راغبا في إتقان الكتابة باللغة
الإنكليزية، لأنها تفتح أمامه مجالا أرحب كثيرا من مجرد الكتابة في
جريدة تصدر بالعربية في أميركا ( كالمهاجر9 ولا يقرأها سوى عدد قليل من
الناس. ولكن انكليزيته كانت ضعيفة جدا. ولم يعرف ماذا يفعل، فكان يترك
البيت ويهيم على وجهه هربا من صورة الموت والعذاب. وزاد من عذابه ان
الفتاة الجميلة التي كانت تربطه بها صلة عاطفية، وكانا على وشك الزواج
في ذلك الحين (جوزيفين بيبادي)، عجزت عن مساعدته عمليا، فقد كانت تكتفي
بنقد كتاباته الإنكليزية ثم تتركه ليحاول إيجاد حل لوحده. في حين ان صديقه
الآخر الرسام هولاند داي لم يكن قادرا على مساعدته في المجال الأدبي
كما ساعده في المجال الفني.
مع
فجر القرن العشرين، كانت بوسطن، التي سميت "أثينا الأمريكية"، مركزاً
فكرياً حيوياً اجتذب فنانين مشهورين وواعدين. وكان بعضهم راغباً في
الخروج من معاقل المادية للبحث عن سبل فنية جديدة واستكشاف ميثولوجيا
وحضارات الشرق بل وعلومه الباطنية والروحية. وغاص جبران
في هذا المجتمع البوسطني الذي تزدهر فيه حركات صوفية كان أبلغها
تأثيراً "الحكمة الإلهية" التي أنشأتها عام 1875 الأرستقراطية الروسية
"هيلينا بتروفنا بلافاتسكي" التي اطلعت على تراث الهند، والتيبت وشجعت
نهضة البوذية والهندوسية. وشيئاً فشيئاً، اتضح له أن الروحانية الشرقية
التي تسكنه يمكن أن تجد تربة خصبة في هذه البيئة المتعطشة للصوفية... .
في 6 كانون الثاني 1904، عرض "داي" على جبران
عرض لوحاته في الربيع القادم. لم يكن أمامه سوى أربعة أشهر. وبتأثيرات
من عالم "وليم بليك"، أنجز رسوماً عديدة تفيض بالرمزية. اجتذبت أعماله
كثيراً من الفضوليين، ولكن قليلاً من الشارين. وعبر عدد من النقاد عن
إعجابهم بها.
قدمته جوزفين إلى امرأة من معارفها اسمها ماري هاسكل (1904)، فخطّت بذلك صفحات مرحلة جديدة من حياة جبران.
كانت ماري هاسكل امرأة مستقلة في حياتها الشخصية وتكبر جبران بعشر سنوات، وقد لعبت دورا هاما في حياته منذ ان التقيا. فقد لاحظت ان جبران
لا يحاول الكتابة بالإنكليزية، بل يكتب بالعربية أولا ثم يترجم ذلك.
فنصحته وشجعته كثيرا على الكتابة بالإنكليزية مباشرة. وهكذا راح جبران ينشر كتاباته العربية في الصحف أولا ثم يجمعها ويصدرها بشكل كتب ، ويتدرب في الوقت نفسه على الكتابة مباشرة بالإنكليزية.
عزم جبران
على البحث عن عمل أكثر ربحاً من الرسم. ولما علم بأن شاباً لبنانياً
يدعى "أمين غريّب" أصدر صحيفة بالعربية في نيويورك اسمها "المهاجر"،
تقرب منه وأطلعه على رسومه وكتاباته وقصائده. قبل "غريب" مقابل دولارين
في الأسبوع لجبران. وظهرت أول مقالة له في "المهاجر" بعنوان "رؤية".
كان نصاً مفعماً بالغنائية أعطى الكلام فيه لـ "قلب الإنسان، أسير
المادة وضحية قوانين الأنام".
وفي 12 تشرين الثاني 1904، احترق مبنى معرض "داي"، وأتى على موجوداته كلها، بما في ذلك رسوم جبران. وتحت صدمة الحريق، الذي وصفه بأنه مشهد جديد من التراجيديا التي يعيشها منذ سنتين، أصبح جبران يكتب أكثر مما يرسم. وخصه "أمين غريب" بزاوية منتظمة بعنوان "أفكار"، ثم استبدله بعنوان "دمعة وابتسامة"، حيث راح جبران يتحدث عن المحبة، والجمال والشباب والحكمة. ونشرت له "المهاجر" عام 1905 كتاباً بعنوان "الموسيقى".
باريس .. مرحلة جديدة
كانت
باريس في بدايات القرن العشرين حلم فناني العالم كله. بعد وصوله إليها
بوقت قصير، أقام في "مونبارناس"، وسرعان ما انتسب إلى "أكاديمية
جوليان"، أكثر الأكاديميات الخاصة شعبية في باريس، التي تخرج منها
فنانون كبار، "ماتيس"، و"بونار"، و"ليجيه"... وانتسب كطالب مستمع إلى
"كلية الفنون الجميلة". أوقات فراغه، كان جبران
يقضيها ماشياً على ضفاف نهر السين ومتسكعاً ليلاً في أحياء باريس
القديمة. بعد أن ترك باريس لاحقاً، قال لصديقه "يوسف حويك" الذي عاش معه
سنتين في مدينة النور: "كل مساء، تعود روحي إلى باريس وتتيه بين
بيوتها. وكل صباح، أستيقظ وأنا أفكر بتلك الأيام التي أمضيناها بين
معابد الفن وعالم الأحلام...".
لم يستطع جبران
البقاء طولاً في "أكاديمية جوليان"، حيث وجد أن نصائح أستاذه فيها لم
تقدم له أية فائدة. من المؤكد أن أسلوبه لم يستطع إرضاء روح جبران
الرومانسية. في بداية شباط 1909، عثر الفنان على أستاذ جديد: "بيير
مارسيل بيرونو"، "الفنان الكبير والرسام الرائع والصوفي.."، حسب عبارة جبران.
لكنه تركه أخيراً، بعد أن نصحه الفنان الفرنسي بالانتظار والتمهل حتّى
ينهي كل قاموس الرسم، فجبران نهم إلى المعارف والإبداع وراغب في حرق
المراحل.. .
تردد حينذاك إلى أكاديمية "كولاروسي"، المتخصصة في الرسم على النموذج، والتي كانت تستقبل فنانين أجانب، غير أن جبران
كان يفضل العمل وحيداً وبملء الحرية في مرسمه، وزيارة المعارض،
والمتاحف، كمتحف اللوفر، الذي كان يمضي ساعات طويلة في قاعاته الفسيحة.
وأعطى دروساً في الرسم لبعض الطلبة. وانخرط في مشروع طموح: رسم
بورتريهات شخصيات شهيرة، وقد ابتدأها بالنحات الأمريكي "برتليت"، دون أن
نعرف بدقة إن كان قد التقى بهؤلاء.
في
هذه الأثناء، توفي والده. وكتب إلى "ميري هاسكل" يقول: "فقدت والدي..
مات في البيت القديم، حيث ولد قبل 65 سنة.. كتب لي أصدقاؤه أنه باركني
قبل أن يسلم الروح. لا أستطيع إلاّ أن أرى الظلال الحزينة للأيام
الماضية عندما كان أبي، وأمي وبطرس وكذلك أختي سلطانة يعيشون ويبتسمون
أمام وجه الشمس...".
كان جبران
دائم الشك، طموحاً، ومثالياً، متصوراً أنه يستطيع إعادة تكوين العالم،
وسعى إلى إقناع الآخرين بأفكاره ونظرياته حول الفن، والطبيعة...،
وقلقاً، وكثير التدخين، وقارئاً نهماً، وقد أعاد قراءة "جيد" و"ريلكه"
و"تولوستوي" و"نيتشه"، وكتب نصوصاً بالعربية وصفها المحيطون به بأنها
"حزينة ووعظية".
في
ذلك الوقت، قدم إلى باريس عدد كبير من دعاة الاستقلال السوريين
واللبنانيين، المطالبين بحق تقرير المصير للبلدان العربية الواقعة تحت
النير العثماني. وظهرت فيها جمعيات سرية تطالب بمنح العرب في الإمبراطورية
العثمانية حقوقهم السياسية وبالاعتراف بالعربية لغة رسمية... وتردد جبران إلى هذه الأوساط وتشرب بأفكارها. ورأى أن على العرب أن يثوروا على العثمانيين وأن يتحرروا بأنفسهم.
رغب جبران
في التعريف بفنه. ونجح في الوصول إلى أشهر معارض باريس السنوية، معرض
الربيع، حيث استطاع أن يعرض لوحة عنوانها "الخريف"، آملاً أن يمر بها
"رودان العظيم" فيعجب بها ويثمنها. جاء الفنان الفرنسي، ووقف لحظة
أمامها، وهز رأسه، وتابع زيارته. بعد ذلك، راح يهيئ اللوحات التي دعي
لعرضها في معرض الاتحاد الدولي للفنون الجميلة في باريس الذي دعي إليه
بشكل رسمي. إلاّ أن عدم الاستقرار أتعبه، فتخلى عن المشروع ليترك باريس
ولم تتسن له بعد ذلك العودة قط إلى مدينة الجمال والفنون، ولا إلى مسقط
رأسه لبنان. ولم تأته فرصة لرؤية إيطاليا التي طالما حلم بزيارتها...
!!
غادر باريس ليعود إلى بوسطن
عام 1908 غادر جبران
إلى باريس لدراسة الفنون وهناك التقى مجددا بزميله في الدراسة في
بيروت يوسف الحويك. ومكث في باريس ما يقارب السنتين ثم عاد إلى أميركا
بعد زيارة قصيرة للندن برفقة الكاتب أمين الريحاني.
وصل جبران
إلى بوسطن في كانون الأول عام 1910، حيث اقترح على ماري هاسكل الزواج
والانتقال إلى نيويورك هربا من محيط الجالية اللبنانية هناك والتماسا
لمجال فكري وأدبي وفني أرحب. ولكن ماري رفضت الزواج منه بسبب فارق
السن، وان كانت قد وعدت بالحفاظ على الصداقة بينهما ورعاية شقيقته مريانا
العزباء وغير المثقفة.
وهكذا انتقل جبران
إلى نيويورك ولم يغادرها حتى وفاته . وهناك عرف نوعا من الاستقرار
مكنه من الانصراف إلى أعماله الأدبية والفنية فقام برسم العديد من
اللوحات لكبار المشاهير مثل رودان وساره برنار وغوستاف يانغ وسواهم.
[/center]