أردوجان .. قصة نجاحد. راغب السرجاني
قصة أردوجان.. إنها قصة رمز لا نستطيع أن نُغفل أمره؛ فقد صار ملء سمع وبصر الدنيا.. أردوجان
في واقع الأمر شخصية مثيرة للغاية؛ فقد رفع الكثيرون درجة التزامه بالدين
حتى جعلوه رمزًا دينيًّا صريحًا، وهاجمه الكثيرون في النقطة ذاتها حتى
اتهموه بالعلمانية الفجَّة؛ بل بالكفر الصريح! وقام كثيرون بتعظيم وطنيته
وتقدير حبِّه لبلاده، وقام غيرهم باتهامه بالعمالة للصهاينة وبالتبعية
للغرب، وقام فريق ثالث بتعظيم تجربته الاقتصادية ونموذجه التركي البارز،
بينما قام فريق آخر باتهامه بأنه لم يفعل شيئًا للاقتصاد التركي، وأن ما
حققه من نجاحات ما هي إلا أوهام يضحك بها على شعبه!!
لقد كان أردوجان شخصية مثيرة لكثير من الجدل..
وأنا -كعادتي- إذا أردتُ أن أفهم شخصية، أو أُحَلِّل موقفًا لا بُدَّ أن أعود إلى جذور قصته، وإلى أصل حكايته..
وقصة أردوجان قصة عميقة في التاريخ.. جذورها تصل إلى الخلافة العثمانية الكبيرة، وتمرُّ بمراحل متعددة متباينة.. فيها السعادة وفيها الحزن، وفيها النجاح وفيها الفشل، وفيها النصر وفيها الهزيمة.
أردوجان .. مولد زعيم
وُلد الزعيم رجب طيب أردوجان في العاصمة التركية إسطنبول في 26 فبراير 1954م، في أسرة تركية رقيقة الحال[1]، أمضى طفولته المبكِّرة في محافظة ريزه[2]
المطلَّة على البحر الأسود؛ حيث كان والده يعمل مع رجال خفر السواحل،
وعندما بلغ أردوجان الثالثة عشرة من عمره قرَّر والده الانتقال إلى
إسطنبول على أمل تحسين وضعه المادي، ولتأمين مستقبل أفضل لأطفاله الخمسة[3].
وفي
إسطنبول التحق أردوجان بمدارس إمام وخطيب الدينية Hatip Lisesi، ولدينه
وتقواه أطلق عليه لقب "الشيخ رجب"؛ ومِن ثَمَّ شارك في حلقات للشيخ أسعد
جوشقون شيخ الطريقة النقشبندية في إسطنبول[4].
وفي
المرحلة الثانوية انتقل أردوجان إلى مدرسة أيوب، التي شهدت بدايات
اهتماماته بقضايا الوطن التركي؛ وذلك على خلفية إسلامية تكوَّنت معالمها
من دراسته للعلوم الشرعية، فنشط أردوجان أثناء دراسته الثانوية في مختلف
فروع الاتحاد الوطني لطلبة تركيا[5].
ثم
انتقل أردوجان بعد ذلك إلى المرحلة الجامعية، حيث التحق بكلية التجارة
والاقتصاد بجامعة مرمرة بإسطنبول، واستمرَّ في نشاطه السياسي؛ حيث أصبح
رئيسًا لفرع الشباب التابع لحزب السلامة الوطني الإسلامي[6].
وقد تميَّز أردوجان بشخصية قوية ومؤثِّرة جعلته متفرِّدًا بين أقرانه،
بجانب حرصه الدائم على التطرُّق للمشاكل الحياتية التي يُعاني منها أبناء
الشعب التركي، لا سيما وأن أردوجان نفسه اضطرته الظروف المعيشية إلى العمل
في بعض الأعمال والمهن البسيطة -مثل بيع عصير الليمون والكعك[7]- من أجل جني المال لمساعدة والده ولتوفير مصاريف تعليمه[8].
كذلك عُرف عن أردوجان اهتمامه بالرياضة منذ شبابه المبكِّر؛ حيث كان يمارس لعبة كرة القدم بانتظام خلال المرحلة الجامعية[9]،
هذه المرحلة التي شهدت بداية تألُّق أردوجان وظهور قدراته ومهاراته
القيادية بين كوادر الحركة الإسلامية التركية؛ فمن ملاعب كرة القدم انتقل
إلى ملاعب السياسة، وانتقل من الاتحاد الوطني للطلبة الأتراك إلى حزب
السلامة؛ حيث ترأَّس قسم الشباب في فرع الحزب التابع لمدينة إسطنبول، بما
لفت انتباه الزعيم الإسلامي نجم الدين أربكان،
الذي كان يترأَّس حزب السلامة في هذه الفترة، والتقى الزعيم الكبير بالشاب
الواعد، الذي نجح في اكتساب ثقة أربكان، وتعدَّدت اللقاءات بينهما إلى أن
قام الجيش التركي بتنفيذ انقلابه في عام 1980م، ليشهد أردوجان عن كثب أول
مواجهة بين الإسلاميين والعسكريين[10].
بعد
مرور ثلاث سنوات على الانقلاب العسكري وفي 24 إبريل 1983م رُفعت معظم
القيود عن النشاط السياسي، ثم سُمح للأحزاب السياسية بالتشكيل من جديد،
وكان من بين الأحزاب التي شُكِّلت في هذه الفترة "حزب الرفاه الإسلامي".
أردوجان في حزب الرفاه
ما إن تمَّ الإعلان عن تأسيس حزب الرفاه الإسلامي إلا وبادر أردوجان
بالانضمام إليه؛ وسرعان ما أصبح أردوجان أهم شخصيات الحزب، وأقوى قياداته
في مدينة إسطنبول، ولم يمر عامان إلاَّ وتولَّى أردوجان منصب رئيس فرع حزب
الرفاه في مدينة إسطنبول[11]. وبالفعل أدار أردوجان فرع الحزب بكفاءة منقطعة النظير، شكَّلت مع مرور الوقت دفعة شعبية هائلة للحزب في أنحاء إسطنبول[12].
كذلك
فقد شهدت هذه الفترة تصعيد أردوجان ليُصبح أحد أعضاء المجلس المركزي لحزب
الرفاه؛ بما أتاح له المشاركة في اتخاذ القرارات، ولم يكن هذا التألُّق
بمعزل عن رعاية الزعيم أربكان وعنايته بتلميذه النجيب؛ حيث صرَّح أربكان
بأنه يرى في أردوجان خليفته؛ وذلك لما يراه في تلميذه من إيمان وتصميم
وتضحية؛ بل واللافت للانتباه في هذه المرحلة أن أربكان كان يصف نفسه
بالواقعية، بينما كان ينظر إلى أردوجان على أنه متشدِّد وزائد الحماسة[13].
بعد
ذلك أصبح أردوجان أحد أشهر قيادات حزب الرفاه، ومن ثَمَّ قام الحزب
بترشيحه لعضوية البرلمان التركي في عام 1991م، إلاَّ أنه لم يستطع الفوز
بالمقعد[14]. ولكن هذا الإخفاق لم
يُثنيه عن مسيرته الإصلاحية، التي تخطَّت ثمارها حدود بلدية بيوجلو؛
لتنتشر في سائر أحياء إسطنبول، وبمرور الأيام علا نجم أردوجان وعُرف عنه
في كافة أنحاء إسطنبول الجدُّ والاجتهاد ومراعاة مطالب أبسط فئات الجمهور،
فضلاً عن طهارة يده، وتعفُّفه عن المال العام، وقد تبدَّت معالم هذه الثقة
وتكللت بفوز أردوجان في عام 1994م برئاسة بلدية إسطنبول[15]،
هذه المدينة الكبيرة العريقة بما تحمله من مكانة تاريخية في نفوس الأتراك،
إضافةً إلى أهميتها الجغرافية والسياسية في الساحة التركية.
أردوجان عمدة إسطنبول
لقد
أيقظ أردوجان -من خلال إدارته العبقرية للموارد البشرية والشئون المالية-
المشاعر الإيجابية لدى أبناء إسطنبول، وأعاد لهم الثقة بأنفسهم وبقدرتهم
على النهوض بمدينتهم، فحلَّ مشكلة القمامة لما لها من آثار نفسية محبطة،
فضلاً عن آثارها الصحِّيَّة، كما عالج مشكلة تلوث هواء إسطنبول التي كانت
تُؤَرِّق سكانها، واتخذ العديد من التدابير لضمان استخدام أموال البلدية
بحكمة، وحارب الفساد بكل قوَّة، فسدَّد ديون إسطنبول التي جاوزت المليارين
من الدولارات عند تسلُّمه رئاسة المدينة، بل ووفر فائضًا نقديًّا استثمره
لصالحها بلغ أربعة مليارات دولار[16].
أردوجان والسجن
إن الإنجاز الذي حقَّقه أردوجان في إسطنبول واضح للعيان، وشهد به الجميع حتى الخصوم السياسيين[17]،
ولم يقف هذا التقدير عند المستوى المحلِّي فقط، بل تعدَّاه إلى المستوى
الدولي؛ حيث تمَّ تكريم أردوجان من قِبَل الأمم المتحدة على ما قدَّمه
لإسطنبول خلال فترة ولايته[18].
والعجيب
في الأمر أن كل إنجازات أردوجان التي أقرَّ بها القاصي والداني لم تشفع له
عند حرَّاس المعبد العلماني التركي؛ فما إن مسَّ أردوجان أحد ثوابت الدولة
العلمانية في أحد خطاباته، حتى انقلب عليه حراس العلمانية؛ فطردوه من
منصبه، وأحالوه إلى المحاكمة بدم بارد!
ففي
زيارة قام بها أردوجان إلى محافظة سيرت Siirt Province الواقعة في جنوب
شرق تركيا في 12 ديسمبر 1997م، تضمَّن خطابه أبياتًا من الشعر تحمل بعض
المعاني الحماسية، نذكر منها:
"مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا، والمصلون جنودنا، هذا الجيش المقدس يحرس ديننا"[19].
فتسبَّبَتْ
هذه الكلمات في إدانة أردوجان بتهمة التحريض على الكراهية الدينية، وحكمت
عليه محكمة أمن الدولة بمدينة ديار بكر بالسجن لمدَّة عام، وحرمانه من
ممارسة جميع الأنشطة السياسية مدى الحياة[20]!
الخلاف مع حزب الفضيلة
في
18 يونيو 1997م قام الجيش التركي فيما سُمِّيَ "بالانقلاب الأبيض"، الذي
اكتملت معالمه بحظر حزب الرفاه، ولم يكن قرار الحل مفاجئًا للإسلاميين، بل
كانوا يتوقَّعُونه في أية لحظة. ومن ثَمَّ وضعوا مشروعًا لتأسيس حزب يخلف
الرفاه في حالة حَلِّه، حيث تم تأسيس حزب "الفضيلة"، الذي انتخب لرئاسته
رجائي قوطان في ديسمبر 1998م[21].
ولذا فما إن خرج أردوجان من السجن بعد مرور أربعة أشهر قضاها في محبسه -وذلك بعد حصوله على عفو سياسي[22]-
إلا وبدأ يُبَشِّر بمشروعه السياسي الجديد للتغيير في تركيا، الذي يقتضي
ضرورة تعديل النهج والأسلوب التقليدي الذي تنتهجه الحركة الإسلامية في
تركيا.
وكانت
الفترة التي أعقبت السجن بمنزلة عهدٍ جديدٍ في حياة أردوجان السياسية، فقد
تغيَّرت نظرته للكثير من الأمور، وأصبحت لديه العديد من التحفظات على
طريقة أستاذه أربكان في العمل..
ثم قرَّرت المحكمة الدستورية التركية في يونيو 2001م حلَّ حزب الفضيلة الإسلامي، بتهمه أنه استمرار لحزب الرفاه الإسلامي[23].
لقد
جاهد أردوجان زعيمُ شباب الحزب -الذين يُعرفون في الحركات الإسلامية
بـ"جيل الوسط"- كثيرًا لتقويم أفكارهم والحدِّ من طموحاتهم؛ حتى لا يحدث
صدام داخلي بين أبناء الحركة الإسلامية، ولكنه مع مرور الوقت وتفاقم
الأزمات التي واجهتها حركة أربكان، بدأت أصوات شباب الحركة في الارتفاع؛
لتطرح رؤيتها بضرورة تغيير استراتيجية الحركة، وذلك في تعاملها مع الدولة
التركية بجميع أطيافها السياسية وعلى رأسها العسكريون، وأنه حان الوقت
للحدِّ من الأسلوب الصدامي الذي يتبعه "شيوخ" الحركة مع المؤسسة العسكرية.
وجاء
حلُّ حزب الرفاه، ثم تشكيل حزب الفضيلة، الذي سار على النهج الأربكاني
نفسه؛ بعدما فشل جيل الوسط من الفوز برئاسته، ولم تحدث أي محاولات لانشقاق
من جانب هؤلاء الشباب طوال هذه الفترة..
إلى
أن تمَّ حلُّ حزب الفضيلة ليُؤَكِّد اقتناع جيل الشباب -الذين يُطْلَق
عليهم في تركيا "المجددون المعاصرون"- بحاجة الحركة الإسلامية إلى إعادة
ترتيب أوراقها بما يُناسب الحالة التركية.
تأسيس حزب العدالة والتنمية
لم
يتوقَّف أردوجان ولم يتراجع عن أفكاره، التي اقتنع أنها السبيل الأنجع
للإصلاح في تركيا، ومضى في طريقه الذي حدَّده لنفسه بقوة وعزم أكيد، ولم
يكن بمفرده؛ فقد كان معه عبد الله جول أقرب أصدقائه إلى نفسه، وكذلك زوجته
أمينة المحجبة الملتزمة بتعاليم الإسلام، التي تزوجها في عام 1978م.
ومن
هنا كان تأسيس هذا الجيل الجديد بقيادة الزعيم الشاب أردوجان لحزب جديد،
واختاروا له اسمًا موحيًا وهو "العدالة والتنمية"، بينما سار "شيوخ"
الحركة في اتجاه تأسيس حزب جديد آخر باسم "السعادة" على النهج الأربكاني
نفسه في الأحزاب الأربعة التي سبقته[24].
وللحقِّ..
فقد أثار خروج مجموعة أردوجان وجول الكثير من اللغط والبلبلة، التي اخترقت
آثارها الحدود التركية، وعلى كل الأحوال وبغضِّ النظر عن الآراء المتضاربة
في هذا الشأن فإنه -إحقاقًا للحقِّ- بمرور السنوات وتتابع المواقف نستطيع
أن نقول باطمئنان: إن تجربة حزب العدالة والتنمية التركي وعلى رأسها
الزعيم رجب طيب أردوجان، أصبحت مصدر فخر وعزَّة لكل مسلم، ليس في تركيا
فقط، بل وفي العالم بكامله.
تركيا قبل تسلم أردوجان الحكم
استقبلت
الدولة التركية الألفية الثالثة بوضع مأساويٍّ بحقٍّ، ويشهد حالة فريدة من
التردِّي أصابت كافَّة قطاعات الدولة، لا سيما بعدما انتهت الدورة
البرلمانية 1999- 2002م بصورة أقرب إلى الفوضى، فنظرًا لتوالي الفضائح
وتفشِّي الفساد، فضلاً عن وضع اقتصادي يُداني الإفلاس؛ مما قاد إلى انهيار
البورصة التركية، وحدوث أزمة اقتصادية طاحنة في فبراير 2001م[25].
إلى
جانب مشكلة البطالة كأحد مظاهر الأزمة الاقتصادية الطاحنة، كانت قضية
الحجاب واحدة من أسخن القضايا الداخلية المطروحة بقوَّة على الساحة
السياسية التركية لمدة العشرين عامًا الأخيرة من القرن الماضي، ومع ذلك
فلم تصل هذه المشكلة إلى حلٍّ نهائي، هذا إضافة إلى القضية الكردية كأحد
أكبر المشاكل التي تُواجه أي حكومة تركية؛ فكلمة "الأكراد" تحمل في طياتها حساسيات كثيرة في تركيا.
وكما
كانت الأوضاع الداخلية تُواجِه العديد من التحديات الجسيمة، كان هناك
العديد من القضايا الخارجية الشائكة في انتظار الحسم؛ لا سيما قضية
التعامل والتنسيق مع صندوق النقد الدولي وملف الانضمام إلى الاتحاد
الأوربي، وموقف تركيا من الأزمة العراقية الأمريكية.