ان يعود فنار الاسكندرية للحياة..فهذا خبر قد نطالعه من وقت لآخر في الصحف اليومية وأن يكون هناك حلم بوجود متحف للبحرية المصرية يطل علي مكتبة الإسكندرية فهذه تفصيلة أخري تضاف إلي المكان, وإن كان الواقع والحقيقة أكثر روعة من الخيال. .
فمعرفتنا بالأشياء قد تتوقف عند حدود الرغبة في التعرف علي ما حدث بالأمس في بر مصر.
وهذه المعرفة تعني بلا شك ان يكون لدينا فرصة لكي نفهم ونصل إلي تفسير لظاهرة تكررت عبر الزمان وهي التي أستطيع أن ألخصها في مسألة أو تساؤل واحد.. لماذا تملك مصر كل هذا الجمال والروعة؟!
فمن يمشي بمحاذاة شاطئ البحر أوالنيل... ومن يكتب له أن يري الإسكندرية وهي تتنفس نسمات الصباح الأولي بعيدا عن الزحام, بل ومن يصدم وجهه رزاز البحر ساعة العصاري ويجلس علي أحد المقاهي التي تفرض نفسها فرضا علي طول الكورنيش وكأنها تذكير بزمن الكوزموبوليتانية السكندرية حين كانت تتآخي نغمات سيد درويش البحر مع مقطوعات موسيقية غربية ولد الكثير منها في مدينة الاسكندرية علي أيدي أجانب متمصرين لابد وأن يعيش لحظات إنبهار لا يفيق منها.
ففي الاسكندرية يمكن أن يستحوذ عليك شعور غريب بأن هناك مفاضلة لصالح هذه المدينة. فالقاهرة تتحمل وحدها عبء العاصمة بكل معاناة الهجرة الداخلية والرغبة في البحث عن لقمة العيش وضغوط الحياة التي لا تنتهي, أما هنا وفي الإسكندرية يحتفظ البحر بكل التفصيلات الجميلة ولا تتجرأ حركة الأمواج والمد والجزر الا علي الاشياء التقليدية التي تبدو كقطع روبابيكيا يحملها البحر في طريقه إلي المجهول.
فهذه هي الاسكندرية.. صورة داخل الكادر صاحبة ملامح قد لا تعرفها مدينة أخري ولدت علي شاطئ البحر المتوسط.
ولهذا لم يكن غريبا أن يكون هناك مركز لدراسات الاسكندرية والبحر المتوسط داخل رحاب مكتبة الاسكندرية ولد هو الآخر مع السنوات الأولي للمكتبة. ولا أن يكون هناك فكرة للبحث أولا عن فنار الاسكندرية الذي يعرف في كثير من الاحوال باسم فنار فاروس أو الفنار الوحيد الذي يستطيع أن يحكي تاريخ البحر.
وفنار الاسكندرية الذي ولد بين السماء والأرض السكندرية يدخل ضمن مشروع توثيق تتبناه الآن علي الورق مكتبة الاسكندرية وتعتبره يقع في حدود المشروع الخاص بها, فمن بين صور المتحف الخاص بالدكتور محمد عوض مدير مركز دراسات الاسكندرية وحضارة البحر المتوسط والتي قام بشكل شخصي بجمعها علي مر سنوات عمره أوراق خاصة بمحمود باشا الفلكي وصور عن التخطيط العمراني للاسكندرية منذ عهد محمد علي وصور لميدان القناصل الذي عرف فيما بعد بميدان المنشية والذي لا يزال الناس يتذكرونه بحادث المنشية الشهير في زمن الرئيس عبد الناصر.
وعلي جانب آخر من المتحف توجد خصوصية سكندرية توجدها تلك الصور الفوتوغرافية لأهم المقاهي والمسارح في الاسكندرية والتي تظهر من بينها لقطة نادرة لمعجزة المسرح سارة برنار التي قد لا يعرف كثيرون أنها جاءت ذات يوم إلي هذه المدينة الراقية التي كانت تنافس مسارحها ومقاهيها وشوارعها مسارح وشوارع ومقاهي إيطاليا وفرنسا وإنجلترا.
الا أن فنار الإسكندرية يظل صاحب وضعية خاصة في تاريخ الحضارة الانسانية فهو كما يقول د. محمد عوض أحد عجائب الدنيا السبع الذي أبهر العالم القديم وبقي في ذاكرتنا ليؤثر علي عالمنا الحديث.
وقبل أن تأخذنا التفاصيل ينبغي أولا أن نفهم أن هناك من يري أنه لابد الأن من إعادة إحياء الفنار في شرق اللسان بالميناء الشرقي للإسكندرية, علي أن يستفاد من البوابة القديمة التي عثر عليها ثم نتوقف عند ما كتبه المهندس والأثري الألماني هيرمان تيرش ففي كتابه الذي أعيد اصداره منذ عامين بعد مائة عام من كتابته.
وفنار فاروس في رؤيته لم يكن ضمن التخطيط الأول المبدئي لمدينة الاسكندرية وإن كان في الوقت نفسه يعد أول فنار بني في العالم المتحضر القديم علي لسان جزيرة فاروس. وقد شيد ـ والعهدة علي الكاتب ـ كهرم ذي قاعدة منبسطة وعريضة وهو متعدد الطوابق وهذه احدي التصورات. أما المؤرخون القدماء فقد اقتصروا فقط علي وصف الارتفاع الشاهق له ولإشارته الضوئية الواضحة التي كان يبعثها من مسافة بعيدة.
وتظهر عملة مسكوكة في عصر الامبراطور دوميتيان شكل البرج وتمتد لعبة إظهاره علي العملات حتي عصر الامبراطور كومودوس.
إذن الاقدم كانت في عصر الامبراطور دوميتان ويظهر في شكل عريض وضخم علي هيئة طابقين.والفنار نفسه يقع في غرب الاسكندرية في منطقة تابوزيريس ماجنا ويبلغ ارتفاعه حوالي عشرين مترا. وكان يخدم أيضا حركة الملاحة الداخلية علي بحيرة مريوط. ويقال ان هذا المبني قد عاش لألف عام كاملة إلي بداية القرن الرابع عشر نتيجة الزلازل القوية. وقد رأي السلطان قايتباي في زمن المماليك أن بناء القلعة علي اطلاله هو أفضل القرارات.
وقد أطلق المؤلفون علي سوستراتوس دكسيفانس لقب منشئ الفنار. وقد تم تدشينه في أول احتفال سكندري ضخم أقيم عام279 قبل الميلاد.
وإحدي صور الفاروس موجودة علي قبة سان زين ماركو بالبندقية وهي تحكي سيرة القديس مرقص(ماركو) ورحلته إلي الاسكندرية وانتشار المسيحية علي يديه ولقائه الاول بأحد صانعي الاحذية. و تبدو الصورة دقيقة نسبيا حيث يتدرج البرج في ثلاثة طوابق مع وجود سلم داخلي والصورة رغم هذا لم تأت مطابقة لشكل المبني القديم, بل انها تنتمي إلي مرحلة العصور الوسطي.
وقد توالت الكتابات حول حقيقة هذا المبني وقد ذكره ابن يوحنا ووصفه بأنه لا يوجد له مثيل في العالم وان الملكة كليوباترا شيدت هذا القصر علي جزيرة تقع في شمال غرب مدينة الاسكندرية بواسطة أحجار ورمال. وقد استعانت برجل عبقري وعالم يسمي ديكسيفانوس في الأعمال الضخمة والمدهشة التي قامت بتنفيذها ولقد أقام سدا لصد المياه في البحر فأنشأ أرضا صلبة للسير عليها بالاقدام.
ويقول ابن خرداذبة انه يوجد بفنار الاسكندرية366 بيتا يقع بداخله المسجد في أعلي قمته ويطل فنار الاسكندرية علي شاطئ البحر وتتلاطم الأمواج علي أساساته ولابد لكل سفينة أن تمر بأسفله عند دخول المدينة. ومن يجلس تحت المنارة وينظر في المرآة يمكنه أن يري القسطنطينية بالرغم من عرض البحر الذي يقع بينهما.
ويري المؤرخ المسعودي في كتابه مروج الذهب بانه بالنسبة لأغلب المؤرخين القدماء فإن منارة الاسكندرية شيدها الاسكندر المقدوني. وطبقا لمؤرخين آخرين فان الملكة العجوز دلوقة هي التي شيدت وأقامت مرصد المراقبة لملاحظة تحركات العدو.
ويعتقد المسعودي أن الاسكندر لم يحتج لتشييد هذه المنارة ليستخدمها كمرصد مراقبة فلم يكن هناك احد يجرؤ علي غزو ممالكه. وأن المبني توج بتماثيل من البرونز والمعدن, وهناك تمثال يشير بأصبعه إلي اتجاه شروق الشمس, بينما تتجه يد تمثال آخر نحو البحر وعندما يكون العدو مقبلا علي مسافة ليلة إبحار يصدر التمثال دويا هائلا يمكن سماعه علي بعد ميلين أو ثلاثة. وهناك تمثال آخر يقوم بمقام الساعة التي تصدر نغما بعد مرور كل ساعة.
ويقال انه في عصر الوليد بن عبد الملك احتال عليه أحد جواسيس بيزنطة وأقنعه بان هناك كنزا ضخما دفنه الاسكندر تحت الفنارة ليهدم الجزء المتبقي من الفنارة.
ويقال ان المرآة المقامة أعلي المنارة بقيت علي حالها إلي أن حدث الهجوم من جانب الملوك اليونانيين ضد ملوك الاسكندرية ومصر.
ويسهب الرحالة الفارسي ناصر خسرو الذي زار مصر في فترة حكم الفاطميين في وصف الفنارة التي كانت وقت زيارته في حالة جيدة. وقد وضع أعلاه في الماضي مرآة متوهجة تحرق السفن اليونانية من القسطنطينية وقد أرسل اليونانيون في النهاية رجلا استطاع أن يحطمها.
وفي عصر الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي جاء إليه رجل يعرض عليه إصلاح المرآة فلم يرض الحاكم متعللا بان اليونانيين كانوا يدفعون جزية من الذهب والتجارة.
ويري الادريسي وهو من أهم راسمي الخرائط في تاريخ الحضارة العربية ان أهم ما يميز الفنار هو طريقة رص الأحجار الواحدة في مواجهة الأخري وربطهم في تشابك بواسطة الرصاص المذاب, بحيث لا يمكن للكتل أن تنفصل. وقد قام الرحالة ابن جبير بقياس أحد الجوانب الأربعة للفنار فوجد أن طوله يبلغ خمسين ذراعا. ومن يدخله يشعر بأنه ضل الطريق عند تجوله فيه.
ويقرر ابن بطوطة أن الفنار قدكان ضمن تفاصيل رحلته عام1326 يبلغ مائة و أربعين شبرا من كل جهاته الأربع, ولا يمكن الوصول إليه من جهة الارض الا عند الخروج من المدينة, كما انه عند عودته إلي الاسكندرية بعدها بثلاث سنوات وجده قد استولي عليه الخراب. ولم يستطع الملك الناصر بناء فنار آخر حين وافته المنية فلم تر فكرته النور.
و الشرح العربي لطبيعة الفنار يتعدد علي ألسنة رحالة ومؤرخين آخرين مثل المقريزي والسيوطي وابن اياس وتتعدد معه الروايات والتحليلات والرؤي للحياة المصرية.
فالمقريزي مثلا يصف الاحتفال الذي كان يشهده الفنار يوم خميس العدس أو خميس العهد. فيتجه أهل الإسكندرية نحو البرج ـ حسب وصفه ـ ومعهم طعامهم, الذي لابد ألا يخلو من العدس. وتفتح بوابة البرج فيدخل الناس بعضهم يسبح الله وآخرون يصلون, وأخرون أيضا يتداعبون, ويستمر ذلك حتي منتصف النهار ثم يعودون إلي منازلهم وبداية من هذا اليوم يشعرون بالأمان ضد أي هجوم مفاجئ للعدو من ناحية البحر.
ويعتقد هيرمان تريش انه في زمن السلاطين العرب شهدت الفنار ثلاث محاولات لإعادة البناء: أولها بمعرفة ابن طولون والثانية علي أيدي العزيز الحاكم والثالثة في عهد المستنصر بالله.
والجديد أن معماريا كشوازي يري أنه من المحتمل أن يكون مسلمو مصر قد اقتبسوا التخطيط في تدرج الطوابق في مآذن القاهرة حتي القرن السادس عشر.
ويحتفظ مسجد ابن طولون في حي الخليفة بمئذنة تشبه البرج فكما يقول بتلر في كتابه فتح العرب لمصر إنه إذا كان الفاروس قد اختفي منذ وقت كبير فإن مآذن المساجد المصرية إنما رسمت ونسجت علي منواله وسميت باسمه.
معجزة الاسكندرية
وإذا كان حديث تريش قد كتبت عنه أكثر من صحيفة بوصفه رؤية لواقع الاسكندرية وليس فقط الفنار. فإن هذا نفسه قد شهد علي الكثير من الوقائع المصرية والاحداث, وإن كنا لا يمكن أن نقول ان الفنار قد استوعب وحده سدس عدد الكتب التي صدرت في حب الاسكندرية الجميلة. الا ان أكثر ما أريد ان أتوقف عنده هو ما كتبه المؤرخ فليون الذي عاش في القرن الاول الميلادي. وهذا المؤرخ عندما أراد أن يكتب لم يكن ليتوقف عند وصف الفنار فقط بل وصف الحي الملكي الذي يقطنه والميناء الكبير وما كان يتناقل وقتها بين الناس من تأكيد علي وجود رفاة الاسكندر الاكبر في الاسكندرية ووجود منارة يصفها د. محمد عواد حسين في مقالة له صدرت منذ أكثر من ثلاثين عاما بأن أكثر ما يشد في الاسكندرية هو التركيبة الاجتماعية. فعلي الرغم من وجود الاغريق الذين حصلوا علي كل الخيرات وعرفوا كيف تكون حقوق المواطنة, والمقدونيين الذين كانوا سادة الحرب والذين لم يكن يعنيهم شيئا من هذه الحياة الا الكر والفر وما يمكن أن يحصلوا عليه من هذا الباب كأسلاب حرب. واليهود الذين لجأوا إلي المجتمع السكندري, والفرس الايرانيون الذين دخلوا في عصمة الحياة السكندرية وعاشوا كجزء منها. الا ان هذا لم يمنع وجود معجزة أكبر بكثير من الفنار الذي أعتبر أعجوبة من عجائب الدنيا السبع, وهم المصريون أنفسهم الذين استطاعوا أن يحققوا وجودا ثقافيا من خلال المكتبة وإقتصاديا باعتمادهم علي الفطرة التي جعلت من شخص كفرموس السكندري أن يصبح أغني أغنياء البلد وإن كان هذا لم يكن بمعزل عن الوطنية المصرية التي كانت تتملكه.