أبو بكر الرازي والطب الإكلينيكي
قصة الإسلام
يمثِّل أبو بكر الرازي النصف الثاني من القرن الثالث الهجري والنصف الثاني من القرن التاسع الميلادي (ت 311هـ / 923م) ويُعَدُّ عَلَمًا من أعلام الطبِّ في الحضارة الإسلامية, ويُعتبر من أعظم معلِّمي الطبِّ الإكلينيكي، وقد تولَّى تدبير مارستان الرَّيِّ، ثم رياسة أطباء المارستان المقتدري في بغداد، وهو أوَّل مَن أدخل المركَّبات الكيماوية في العلاجات الطبية، وأوَّل مَن صنف مقالات خاصَّة في أمراض الأطفال، وأوَّل مَن استعمل أمعاء الحيوان كخيوط في العمليات الجراحية[1].
كما يعُتَبَر أبو بكر الرازي أوَّل مَن دوَّن ملاحظاته على مَرْضاه، ومراتبَ تطوُّر المرض، وأَثَر العلاج فيه، وأوَّل من وصف الجدري والحصبة، وقال بالعدوى الوراثية، واستخدم الحيوان في تجارِب الأدوية، ومن مؤلَّفاته غير الكتاب المذكور: الحاوي، ورسالة في الجدري والحصبة، والكتاب المنصوري، وكتاب الأسرار، والكتاب الجامع[2].
ولتَمَكُّنه ونتيجة كثرةِ تجارِبه فقد أطاح بنظريات جالينوس التي ادَّعى فيها أن في الحاجز الذي بين الجانب الأيمن والجانب الأيسر في القلب ثقوبًا غيرَ منظورة، يتسرَّب فيها الدم من الجانب الواحد إلى الجانب الآخر، وما وظيفة الرئتين إلا أن تُرفرفا فوق القلب فتبرد حرارته وحرارة الدم، ويتسرَّب شيء من الهواء فيها بواسطة المنافذ التي بينهما وبين القلب فيُغذِّي ذلك القلب والدم.
فانتقد الرازي هذه الآراء، حتى إنه ألَّف كتابًا خصِّيصًا للردِّ على جالينوس أعظم أطباء اليونان، وسمَّاه "الشكوك على جالينوس", وذكر فيه الأخطاء التي وقع فيها جالينوس، والتصويب الذي قام هو به لهذه الأخطاء، وكيف وصل إلى هذه النتائج[3].
ولطالما ورد ذكر البيمارستانات أو المستشفيات العامَّة المجانية، فقدت انتشرت في العصر العباسي بصورة ملحوظة، وكانت بمثابة مدارس عالية للطبِّ، وقد فاقت في تجهيزاتها وتخصُّصاتها كل وصف، حتى لقد أبدعت في وصفها زيغريد هونكه فقالت: "إن كل مستشفى مع ما فيه من ترتيبات ومختبرات، وكل صيدلية ومستودع أدوية في أيامنا هذه، إنما هي في حقيقة الأمر نُصُب تذكارية للعبقرية العربية، كما أن كل حبَّة من حبوب الدواء، مُذَهَّبة أو مسكَّرة، إنما هي -كذلك- تذكار صغير ظاهر، يُذكِّرنا باثنين من أعظم أطباء العرب[4]، ومُعلِّمي بلاد الغرب"[5].
بنو موسى بن شاكر
ويُضارع الرازيَّ في الشهرة في تلك الفترة بنو موسى بن شاكر، وهم الإخوة الثلاثة: محمد وأحمد والحسن (عاشوا في القرن الثالث الهجري التاسع الميلادي، وتُوُفِّيَ محمد، وهو أعلمهم، سنة 873م)، وقد لمعوا في علوم الرياضيات والفلك والعلوم التطبيقية والتقنية، واشتهروا بكتابهم القيِّم المعروف باسم "حيل بني موسى"، والذي يقول عنه ابن خلِّكان: "ولهم في الحيل كتاب عجيب نادر يشتمل على كل غريبة، ولقد وقفت عليه فوجدته من أحسن الكتب وأمتعها"[6]. ويحتوي هذا الكتاب على مائة تركيب ميكانيكي مع شروح تفصيلية ورسوم توضيحية لطرائق التركيب والتشغيل.
والعلم الذي برع فيه بنو موسى هو علم "الحيل النافعة"، أو الهندسة الميكانيكية -بِلُغَةِ العلم المعاصرة- وهو يمثِّل الجانب التقني المتقدِّم في علوم الحضارة الإسلامية؛ حيث كان المهندسون والتقنيون يقومون بتطبيق معارفهم النظرية للإفادة منها في كل ما يخدم الدين، ويُحَقِّق مظاهر المدنية والإعمار، وقد جعلوا الغاية من هذا العلم هي: "الحصول على الفعل الكبير من الجهد اليسير"، ويُقصد به استعمال الحيلة مكان القوَّة, والعقل مكان العضلات, والآلة بدل البدن، وذلك بعد أن كانت غاية السابقين من علم الحيل لا تتعدى استعماله في التأثير الديني والرُّوحي على أتباع مذاهبهم، مثل استعمال التماثيل المتحرِّكة أو الناطقة بواسطة الكُهَّان، واستعمال الأرغن الموسيقى وغيره من الآلات المصوّتة في المعابد[7]!!
ومن أمثلة تركيبات بني موسى الميكانيكية هذه عَمَلُ سراج إذا وُضِع في الريح العاصف لا ينطفئ، وعملُ سراج يُخرِج الفتيلة لنفسه، ويصبُّ الزيت لنفسه، وكل مَن يراه يظنُّ أن النار لا تأكل من الزيت ولا من الفتيلة شيئًا ألبتة، وعملُ نافورة يَفُور منها الماء مدَّة من الزمان كهيئة التُّرس، ومدَّة متماثلة كهيئة القناة، وكذلك لا تزال دهرها تتبدَّل.
وكان استخدام بني موسى للصمامات المخروطية ولأعمدة المرافق التي تعمل بصورة آليَّة، وغير ذلك من مبادئ وأفكار التحكُّم الآلي استخدامًا غير مسبوق، وسبقوا به أوَّل صَفٍّ لآليَّة عمود المَرَافِق الحديث في أوروبا بخمسمائة عام، ويُعَدُّ أيضًا مِن أهمِّ الإنجازات في تاريخ العلم والتقنية بشكل عامٍّ. وقد استحدثوا كذلك آلات لخدمة الزراعة والفلاحة، مثل المعالف الخاصة لحيوانات ذات أحجام مُعَيَّنة تتَمَكَّن أن تُصِيب مأكلها ومشربها، فلا تُنازِعها غيرها الطعام والشراب، وعمل خزانات للحمَّامات، وآلات لتعيين كثافة السوائل، وآلات تُثَبَّتُ في الحقول كيلا تضيع كَمِّيَّات الماء هدرًا، ويمكن بواسطتها السيطرة على عملية رَيِّ المزروعات، وكان لكل هذه الأفكار الإبداعية أثر كبير في دفع مسيرة تقنية "الحيل النافعة" أو الهندسة الميكانيكية قُدُمًا، حيث تميَّزت تصاميمها بالخيال الخصب والتوصيف الدقيق والمنهجية التجريبية الرائدة[8].
أبو حنيفة أحمد بن داود الدِّينَوَري
وكان يُعاصر الرازيَّ أيضًا أبو حنيفة أحمد بن داود الدِّينَوَري (ت 282هـ / 895م) الذي يُعَدُّ أوَّل المؤلِّفين المسلمين في علم النبات، وقد استطاع أن يستولد ثمارًا ذات صفات جديدة بطريقة التطعيم، وأن يُخرج أزهارًا جديدة بالمزاوجة بين الورد البرِّيِّ وشجرة اللوز[9].
عباس بن فرناس الأندلسي
وفي حاضرة الإسلام في الأندلس كان هناك في ذاك العصر أيضًا عباس بن فرناس الأندلسي (ت 274هـ / 888م)، فمن اختراعاته: النظارات والساعات الدقَّاقة المعقَّدة التركيب، والقبَّة الفلكية التي صنعها في بيته، وقد اشتهر بأنه أوَّل من قام بمحاولة للطيران في الجوِّ، وهي المحاولة التي أودت بحياته[10].
[1] انظر في إنجازات الرازي في مجال الطب: جلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي ص 321، 322.
[2] المصدر السابق ص 323، 324، وتاريخ حكماء الإسلام ص 21، والوافي بالوفيات 3/76، ودائرة المعارف الإسلامية 9/451، والحضارة العربية الإسلامية لشوقي أبو خليل ص 510، 511.
[3] ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء 1/68.
[4] تُريد: ابن سينا والرازي.
[5] شمس العرب تسطع على الغرب ص 334.
[6] الصفدي: وفيات الأعيان 5/162.
[7] انظر: أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي الإسلامي شيء من الماضي أم زاد من الآتي؟ ص 29.
[8] انظر أحمد فؤاد باشا: التراث العلمي الإسلامي ص 30، 31، وعن إنجازات بني موسى انظر: دونالد ر. هيل: العلوم والهندسة في الحضارة الإسلامية، ترجمة أحمد فؤاد باشا، (سلسلة عالم المعرفة) ص 181 وما بعدها، وعلي بن عبد الله الدفاع: روائع الحضارة العربية الإسلامية ص 120 - 122، وجلال مظهر: حضارة الإسلام وأثرها في الترقي العالمي ص 358، 359.
[9] انظر إرشاد الأريب 1/123، وخزانة الأدب للبغدادي 1/25، والحضارة العربية الإسلامية ص 524.
[10] شوقي أبو خليل: الحضارة العربية الإسلامية ص 529.